أنواع السحب (رؤية قرآنية)
قدمة: أخبر الله تعالى في كتابه الكريم عن كثير من ظواهر هذا الكون, ومن هذه الظواهر السحاب والمطر, فأخبر القرآن العظيم عن كيفية تكون السحاب وتحوله إلى أمطار, وجاءت الإشارة في القرآن إلى أن هنالك تنوعاً في الطرق التي يتكون بها السحاب, واختلافاً في الظواهر التي تصاحب كل نوع, مما يدل على اختلاف هذه السحب, وأن هنالك أنواعاً متعددة من السحاب الممطر.
وفي هذا البحث سنتناول الآيات التي ذكرت السحاب الممطر, وكيف أشارت إلى طرق تكونه, مع بيان معاني هذه الألفاظ في اللغة, وسنوضح الاكتشافات العلمية في ذلك, ونذكر وجه الإعجاز في هذه المسألة.
السحاب في القرآن الكريم:
جاءت آيات كثيرة في كتاب الله تعالى تتحدث وتصف السحاب, ومن هذه الآيات:
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ﴾[النور: 43], وقال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾[الروم: 48], وقال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً﴾[النبأ: 14-16].
فهذه ثلاث آيات تتكلم عن السحاب, ونلاحظ أن في كل آية اختلافاً عن الأخرى في طريقة التكوين والظواهر المصاحبة.
فالآية الأولى: تتكلم عن نوع من السحاب تسميه الآية (ركاماً), وتشبهه بالجبال, ويبدأ تكوين هذا النوع من السحاب بعملية الإزجاء ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً﴾, قال صاحب اللسان: زَجَّى الشيءَ وأَزجاه ساقَه ودَفَعه, والرِّيحُ تُزجِي السَّحابَ أَي تَسُوقُه سَوْقاً رفيقاً(1).
وهذا ما فهمه المفسرون من هذه الآية , فقد قال ابن كثير : يذكر تعالى أنه يسوق السحب بقدرته أول ما ينشئها وهي ضعيفة وهو الإزجاء(2), وقال أبو السعود: الإزجاء: سوق الشيء برفق وسهولة(3)، وقال أبو حيان: ومعنى يزجى: يسوق قليلاً قليلاً, ويستعمل في سوق الثقيل برفق كالسحا(4), وقال الشوكاني: الإزجاء : السوق قليلاً قليلاً والمعنى أنه يسوق السحاب سوقاً رفيقاً(5).
وبعد عملية الإزجاء تأتي عملية التأليف بين السحاب ﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾, وقد فصل بينهما بحرف العطف (ثم) الذي يفيد الترتيب مع التراخي, والتأليف في اللغة: الجمع بين الأشياء المتفرقة ووصل بعضها ببعض وتنظيمها(6), والإلف: اجتماع مع التئام, والمؤلف ما جمع من أجزاء مختلفة ورتب ترتيباً قدِّم فيه ما حقه أن يقدم وأخِّر فيه ما حقه أن يؤخر(7).
ومن أقوال المفسرين في ذلك: قال القرطبي: أي يجمعه عند انتشائه ليقوى ويتصل ويكثف(8), وقال الزمخشري: ومعنى تأليف الواحد: أنه يكون قزعاً فيضم بعضه إلى بعض, وجاز ﴿بينه﴾ وهو واحد لأن المعنى بين أجزائه(9), وقال ابن الجوزي: أي يضم بعضه إلى بعض فيجعل القطع المتفرقة قطعة واحدة والسحاب لفظه لفظ الواحد ومعناه الجمع(10), وقال الطبري: وتأليف الله السحاب: جمعه بين متفرقها(11).
وبعد التأليف تأتي عملية الركم ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً﴾, وجاء الفصل بين العمليتين بحرف العطف (ثم) الذي يفيد الترتيب مع التراخي, والركم في اللغة: جمع الشيء فوق الشيء, ورَكَمَ الشيء يَرْكُمُه إذا جَمَعه وأَلقى بعضه على بعض(12), ومن المفسرين قال الطبري: يعني متراكماً بعضه على بعض(13), وقال ابن كثير: أي يركب بعضه بعضاً(14), وبمثلهما قال جمهور المفسرين.
وبعد الركم ينزل المطر ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾, وقد ورد حرف العطف "الفاء"الذي يفيد الترتيب مع التعقيب, أي أن المطر ينزل بعد اكتمال عملية الركم مباشرة, والودق هو المطر(15), ومعنى ﴿من خلاله﴾: الخَلَل مُنْفَرَج ما بين كل شيئين, وخَلَّل بينهما فَرَّج, والجمع الخِلال, وخَلَلُ السحاب وخِلالُه مخارج الماء منه والثقوب التي في السحاب, وروي عن الضحاك أنه فسرها فقال: وهي فُرَجٌ في السحاب يخرج منها(16), وفي قراءة أخرى (من خلله), وقال القرطبي: وخلال جمع خلل مثل جبال وجبل, وهي فرجه ومخارج القطر منه(17), وقال ابن كثير: يخرج من خلاله: أي من خلله كما هي القراءة الثانية(18).
وقوله تعالى:﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ﴾, فيها احتمالان:
الأول: أن في السماء جبال برد ينزل الله منها البرد.
الثاني: الجبال ههنا كناية عن السحاب(19), أي أن السحاب يأخذ شكل الجبال.
والبرد هو قطع الثلج التي تنزل من السحاب, ونلاحظ أن البرد لم يرد ذكره إلا في هذا النوع من السحاب, ولم يرد ذكره في الأنواع الأخرى من السحاب.
ويقول تعالى: ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾, فالآية أضافت البرق للبرد, وأنه هو المسئول عنه.
أما الآية الثانية: فقد أخبرت عن نوع آخر من السحاب يختلف وصفه عن السحاب الأول, فالآية تصفه بأنه سحاب مبسوط, وأنه كسف, وليس فيه شيء من البرد.
ويبدأ هذا النوع من السحاب بعملية إثارة الرياح للسحاب ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً﴾, ومعنى (تثير): تهيج وتظهر(20), أي أن الرياح تهيج السحاب ومن ثم تظهره.
وبعد الإثارة يأتي البسط ﴿فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ﴾, وقد فصل بين العمليتين بالحرف "فاء" الذي يفيد الترتيب مع التعقيب, والبسط هو النشر والمد والتوسيع(21), أي أن هذا السحاب يتصف بالانتشار والتمدد والاتساع.
وبعد ذلك يتحول السحاب بإذن الله تعالى إلى كسف ﴿وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً﴾, والكِسَف هي جمع كسفة وهي القطعة والطبقة(22), وكَسَفْتُ الشيءَ كَسْفاً: إذا غَطَّيْتَه(23), أي أن هذا السحاب يتصف بأنه على شكل قطع وطبقات وهو يغطي مساحة كبيرة من الأفق, وبعد ذلك ينزل المطر مباشرة ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾, وعبر عن ذلك بالحرف "فاء" ليدل على التعقيب, ولم يذكر البرد أو البرق في هذا النوع من السحاب, أي أنه سحاب لا يجلب معه الضرر للناس, ولذلك يفرح به الناس ﴿فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾.
وفي الآية الثالثة جاء نوع آخر من السحاب, ووصف هذا السحاب بأنه معصر ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً﴾, وقد اختلف العلماء في المقصود بالمعصرات في هذه الآية على قولين:
القول الأول: أن المراد بها هو الرياح التي تعصر في هبوبها(24), أي أن الرياح تعصر السحاب فينزل منه الماء, وقال الأزهري: هي الرياح ذوات الأعاصير(25).
القول الثاني: أن المراد بها السحائب التي تنعصر بالماء ولما تمطر بعد, كالمرأة المعصر التي قد دنا حيضها ولم تحض(26), وقال المبرد: يقال سحاب معصر: أي ممسك للماء يعتصر منه شيئاً بعد شيء (27). وقال الراغب الأصفهاني: "﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً﴾، أي: السحائب التي تعتصر بالمطر، أي تصب, وقيل التي تأتي بالإعصار, والإعصار ريح تثير الغبار, قال تعالى: ﴿فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ﴾[البقرة: 266], والإعتصار أن يُعَضَّ فيعتصر بالماء, ومنه العصر"(28)، "والإعْصَارُ ريح تثير الغُبار فيرتفع إلى السماء كأنه عمود، ومنه قوله تعالى: ﴿فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ﴾، وقيل هي ريح تثير سحاباً ذات رعد وبرق"(29).
ورجح جمهور المفسرين أن المراد بالمعصرات هنا هو السحاب(30).
وفي هذا السياق ذكرت الآيات وصفاً للماء الذي ينزل من هذا النوع من السحاب, قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً﴾, فوصفت المطر النازل بأنه ثجاج, والثجاج: المنصب بكثرة على جهة التتابع(31), فهذا النوع من السحاب ينزل منه الماء منصباً بكثافة ومتقطعاً.
وبينت الآيات الفائدة من هذا النوع من المطر وهو إخراج النباتات والحبوب وتكوين الغابات والأشجار ذات الأغصان الملتفة, قال تعالى: ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً﴾.
فهذه خلاصة موجزة في الآيات التي تكلمت عن أنواع السحاب والظواهر المصاحبة لكل نوع, والنتائج المترتبة على كل نوع من أنواع السحاب.
السحاب في ضوء الاكتشافات العلمية الحديثة:
صنف علماء الأرصاد السحب إلى أنواع متعددة, وذلك بحسب ارتفاع قاعدتها وسمكها، وطريقة تكوينها, وليست كلها ممطرة, أي أن هنالك أنواعاً من السحاب لا يمطر, وبتطور علم الأرصاد الجوية واستخدام الأجهزة الحديثة، مثل أجهزة الاستشعار عن بعد، والطائرات والرادارات والأقمار الصناعية، وبمساعدة الحاسبات الإلكترونية استطاع علماء الأرصاد دراسة تفاصيل دقيقة عن مكونات السحب وتطورها، ومازال هناك الكثير أمام هذا الفرع من العلوم لاستكمال دراسته وفهمه. وسنتكلم عن أنواع من السحاب الممطر, ومنها:
أولاً: السحاب الركامي:
وهذا النوع هو الوحيد الذي قد يتطور بإذن الله ليصبح ما يسمى بالركام المزني (الممطر), وهو النوع الوحيد الذي قد يصاحبه برد وبرق ورعد, ويتميز هذا النوع بسُمك كبير, وقد يصل إلى أكثر من (15كم) ويشبه الجبال, والسحاب الركامي الذي تصف الآية الكريمة تكوينه هو ضمن ما درسه علماء الأرصاد واهتموا به من حيث: كيف يبدأ؟ كيف يتطور.. ما هي الظواهر الجوية المصاحبة له؟, وقد أجاب القرآن الكريم على كل هذه التساؤلات قبل 1400 عام بدقة مذهلة.
أ- بداية التكوين للسحاب الركامي (الإزجاء):
يبدأ السحاب الركامي بأن تسوق الرياح قطعاً من السحب الصغيرة إلى مناطق تسمى مناطق التجمع, ويؤدي سوق قطع السحاب لزيادة كمية بخار الماء في مسارها -وخاصة أول منطقة التجمع- وهذا السوق ضروري لتطور السحب الركامية في مناطق التجمع.
ب- تطور السحب الركامية: وتحته عدة مراحل:
1-التجميع (التأليف):
من المعلوم أن سرعة السحب تكون أبطأ من سرعة الرياح المسيرة لها، وكلما كبر حجم السحابة كانت سرعتها أبطأ، وذلك بسبب تأثير قوى الإعاقة (Drag-Force), كذلك تقل سرعة الرياح عامة كلما اتجهنا إلى مناطق التجمع, وعلى ذلك يؤدي العاملان السابق ذكرهما إلى أن قطع السحب تقترب من بعضها، ثم تتلاحم، وبالتالي نلاحظ تكاثف السحب كلما اقتربنا من مناطق التجميع.
2- ركم السحاب:
يزداد بصفة عامة، ويؤدي ذلك إلى جلب مزيد من بخار الماء من أسفل قاعدة السحابة، والذي بدوره يزيد من الطاقة الكامنة للتكثف, والتي تعمل على زيادة سرعة التيار الهوائي الصاعد دافعاً بمكونات السحابة إلى ارتفاعات أعلى، وتكون هذه التيارات أقوى ما يمكن في وسط السحابة، وتقل على الأطراف مما يؤدي إلى ركم هذه المكونات على جانبي السحابة، فتظهر كالنافورة أو البركان الثائر، الذي تتراكم حممه على الجوانب, وقد أثبتت الشواهد أن التحام السحب (Cloud - merger) يؤدي إلى زيادة كبيرة في الركم, وبالتالي إلى زيادة سُمك السحاب, وأن تجميعاً من الدرجة الأولى(First- order merger) يؤدي إلى عشرة أضعاف المطر المنتظر, وأن تجميعاً من الدرجة الثانية(Scond- order merger) يؤدي إلى مائة ضعف من كمية الأمطار المتوقعة بدون أي تجميع للسحب.
وإجمالاً فإن تجميع قطع السحب يؤدي إلى زيادة ركمه وبالتالي إلى زيادة سُمكه التي تدل على قوة هذا السحاب من ناحية أمطاره ورعده وبرقه, بل نجد أن السحاب الذي نحن بصدده يسمى سحاباً ركامياً؛ لأن عملية الركم في هذا النوع أساسية وتميزه عن باقي أنواع السحاب. ومن المعلوم أن عملية سوق السحاب قد تستغرق بضع ساعات، بينما تستغرق عمليتا التجميع والركم أقل من ذلك (حوالي ساعة أو أقل).
ومن المعلوم أيضاً أن من السحب الركامية ما يسمى بالركامي الساخن (ذو سُمك صغير نسبياً) وأقل درجة حرارة داخل هذا السحاب أعلى من درجة التجمد. وهو بذلك السمك الصغير نسبياً أقرب شبهاً بالتلال لا الجبال وحرارته لا تسمح بتكون البرد وهذا النوع تتكون الأمطار فيه من قطرات الماء فقط، وليس به رعد وبرق.
وهناك سحاب ركامي يصل إلى ارتفاعات شاهقة ويشتمل على قطرات ماء في القاعدة، وخليط من ماء شديد البرودة وحبات برد في الوسط، أما القمة فتسودها بلورات الثلج وهذا السحاب هو الذي تكون زخاته من الماء أو البرد أو كليهما ويحدث به برق ورعد وهو السحاب الركامي المزني الذي يكون في شكل الجبال(32).
الظواهر الجوية المصاحبة:
الهطول (زخات من المطر أو البرد أو كليهما):
تتحرك السحب الركامية إلى ما شاء الله لها وعامل الركم والبناء مستمر طالما كانت تيارات الهواء الصاعدة قادرة على حمل مكونات السحاب من قطرات ماء أو حبات برد, وعندما تصبح الرياح الرأسية غير قادرة على حمل هذه المكونات تتوقف عملية الركم وتبدأ مكونات السحاب في الهبوط مباشرة إلى أسفل كمطر من ماء أو برد أو كليهما، وذلك حسب مكونات السحاب وتوزيع درجات الحرارة والرطوبة أسفل السحاب, ويتكون البرد داخل السحاب بين درجتي حرارة أقل من الصفر وحتى (-40ْم).
وفي هذه المنطقة تكون هناك قطرات من ماء شديد البرودة (أقل من الصفر المئوي) وذلك لعدم كفاية نويات التثلج, وهذه القطرات غير مستقرة بمعنى أنها تتجمد فور اصطدامها بأي جسم آخر, وفي حالة وجود تيار هوائي شديد صاعد داخل السحاب الركامي المزني, ونتيجة اختلاف سرعات القطرات شديدة البرودة تحدث تصادمات ينتج عنها تحول قطرات الماء شديدة البرودة إلى ثلج، يغطي حبات البرد، فتكبر وتستمر في الكبر حتى يثقل وزنها ولا يستطيع التيار الرأسي حملها فتهبط برداً, وقد شوهدت حبات برد يصل حجمها إلى حجم البرتقالة, وهذا يعني أنه في مثل هذه الحالات التي تكون فيها حبات البرد كبيرة فإن هذه السحب تحمل في طياتها دماراً عاماً، خاصة للزراعة(33).
الرؤية العلمية الحديثة لتكون البرق بواسطة التفريغ الحاصل من اصطفاق البرد:
أولاً:الظواهر المخبرية:
أ- ظاهرة (وركمان–رينولدز):
اكتشف (رينولدز)و(وركمان) أن الماء أثناء تجمده مع محلول ملحي مائي يولد فرق جهد كهربائي خلال السطح الفاصل بين الثلج والسائل وينعدم بانتهاء التجمد, واقترحا أن يكون هذا أساساً لتولد الشحن داخل السحب وبالتالي تولد البرق.
ب- ظاهرة (دينجر-جون):
لاحظ (دينجر) و(جون) أن الثلج أثناء ذوبانه تتولد عنه شحنات كهربائية, ومكّن هذا (دريك) من اكتشاف أنه إذا ما علقت بلورة ثلجية في سلك وأرسل عليها تيار غازي معلوم السرعة والحرارة والرطوبة لإذابتها فإن الغاز عند نهاية مروره على البلورة لا يحمل شحناً إلا إذا بدأت البلورة في الذوبان. وهناك دليل ميداني قد اكتشفه (تشالمنز) يؤكد أن التيار الكهربائي الجوي ينساب في اتجاه معاكس بالنسبة للمطر والثلج أثناء سقوطهما.
ج- الظاهرة الديناميكية الحرارية للثلج:
إذا تلامست قطعتان من الثلج تختلفان في درجة الحرارة فإن قوة دافعة كهربائية تتولد بالتأثير الحراري, وقد اكتشف (لاتهام) و (ستو) بأن الشحن يمكن أن ينتقل من بلورة إلى أخرى بالتصادم, وكذا إذا انزلقت قطعة ثلجية على أخرى مختلفة عنها في الحرارة. وأن وجود فقاقيع هوائية منحبسة في الثلج يؤثر في إشارة الشحن سلباً وإيجاباً.
د- التكهرب الناشئ عن تصادم أو تكسر بلورات الثلج أو تصادم الماء الشديد البرودة مع البرد:
اكتشف (بيرس) و(كنييه) أن تسليط تيار هوائي على قطعة ثلج تتطاير منه -أثناء تآكله- قطع وشظايا تحمل شحنات سالبة، بينما يحمل الهواء شحنات موجبة، ولاحظ (لاتهام) و(ماسون) بأن هناك تولداً للشحن أثناء تصادم وتجمد قطرات الماء الشديدة البرودة مع سطح ثلجي, وأثناء تكون " الضريب" وهو (البرد - الجليد - الثلج - الصقيع ) كما في معاجم اللغة(34).
والخلاصة مما سبق يتبين أن الثلج أو البرد يولد شحنات كهربائية أثناء تحوله من حال إلى حال إما بالتصادم أو الملامسة أو الانكسار, أي كلما طرأ عليه طارئ غير من شكله، أو حجمه، أو حرارته أو حالته.
ثانياً: الشواهد الميدانية:
وجد (Kiehbid) وآخرون بأن مصدر الشحنات السالبة للتفريغات المتتالية من السحاب إلى الأرض يوجد على ارتفاعات محصورة ما بين سطحين متاخمين درجة حرارتهما (-15ْو-25ْ), وتتطابق مع منطقة وجود أمطار أو ثلوج بين هذين المستويين, ومن هنا يظهر أنه رغم اختلاف أنواع السحب الركامية جغرافياً أو فصلياً فإن حيز الحرارة الذي توجد بداخله مراكز الشحن السالبة ثابت لا يختلف.
ويقرر (لاتهام) أن هذه المشاهدة متفقة تماماً مع الظواهر المخبرية وبالتالي فإن باستطاعة البرد أن يولد مجالاً كهربائياً انهيارياً في الفترة الزمنية المطلوبة مع أمطار معتدلة, إذا وصل تركيز بلورات الثلج في منطقة الشحن إلى 10 بلورات في اللتر الواحد.
وبما أن مركز الشحن يقع في الحيز المحصور ما بين (-15ْو -25ْ) فإنه من الواضح أنعدد نويات التجمد الطبيعية غير كاف لتوليد البلورات الثلجية بالتركيز المطلوب، ولا شك أن هناك عاملاً ثانوياً وإن لم نقف عليه بعد لازدياد عدد البلورات(35).
الخلاصة: وهكذا فإن الظواهر المخبرية والمشاهدات الميدانية قد أقامت الدليل على أن البرد قد يكون سبباً في تولد البرق وهذا ما قرره القرآن الكريم قبل 1400عام.
وجه الإعجاز:
فيما سبق تم إيضاح نشأة وتطور السحاب الركامي وكذا الظواهر الجوية المصاحبة لذلك, ومن خلال ما تم بيانه من معاني للنص القرآني سابقاً فإننا نحدد أوجه الإعجاز كالآتي:
1- في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً﴾, وعرفنا أن معنى (يزجي): هو سوق الشيء برفق, أي أن الرياح تسوق السحاب سوقاً رفيقاً, وهذا هو ما فهمه المفسرون من الآية كما سبق ذكره. وهذه المعاني اللغوية للآية بالإضافة إلى ما ذكره المفسرون هو نفسه الذي قرره علماء الأرصاد في الخطوة الأولى من تكوين السحاب الركامي كما بينا سابقاً تحت عنوان: بداية التكوين للسحاب الركامي.
2- في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾, ذكرنا أن معنى التأليف في اللغة هو: الجمع بين الأشياء المتفرقة مع التنظيم والترتيب, وهذا اللفظ الذي استعمل في كتاب الله للدلالة على المرحلة الثانية في نظام تكوين السحاب الركامي يندرج تحته هذا المعنى العلمي الذي شاهده علماء الأرصاد. ففي هذه المرحلة تتألف السحب المتعددة لتكون سحاباً واحداً وبلغ التأليف بين السحب أن أصبحت كياناً واحداً. ويحدث كذلك تأليف بين أجزاء السحاب الواحد. كما أشار إلى ذلك الزمخشري أخذاً من معنى اللفظ القرآني. ولكي تتم هذه الخطوة, وهي الانتقال من مرحلة الإزجاء لقطع السحب إلى مرحلة التأليف يحتاج الأمر إلى وقت؛ ولذلك نرى أن الحرف الذي استعمل في القرآن للدلالة على هذه العملية هو حرف العطف "ثم" الذي يدل على الترتيب مع التراخي في الزمن ﴿ثم يؤلف بينه﴾(36).
3- عند قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً﴾, ذكرنا أن معنى الركم في اللغة: جمع الشيء فوق الشيء, ورَكَمَ الشيء يَرْكُمُه إذا جَمَعه وأَلقى بعضه على بعض, وبمثل ذلك قال المفسرون, وهذه المرحلة الثالثة من مراحل تكوين السحاب الركامي المذكورة في الآية الكريمة تقابل ما ذكرناه آنفاً تحت عنوان: ركم السحاب. وبيّنا فيه أن عامل ركم السحاب الذي يكون بالنمو الرأسي لنفس السحابة، هو العامل الرئيسي في هذه المرحلة، وأن الانتقال إليه من المرحلة السابقة يحتاج كذلك إلى زمن؛ لذلك كان استعمال حرف العطف الدال على الترتيب مع التراخي في الزمن. وهو حرف العطف (ثم).
4- في قوله تعالى: ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾, والودق: هو المطر عند جمهور المفسرين كما أسلفنا. ومعنى (خلاله): من فتوقه ومخارجه, وقال بهذا التفسير جماعة من المفسرين, وهذا الذي أشارت إليه الآية الكريمة هو ما قرره علماء الأرصاد من مراحل لنزول المطر في السحاب الركامي. فهذه المرحلة تعقب المرحلة السابقة وهي مرحلة الركم, وبعد أن يضعف الرفع في السحاب أو ينعدم وهو الذي كان يسبب الركم ينزل المطر على الفور, وبضعف عملية الرفع إلى أعلى أو انعدامها تتكون مناطق ضعيفة في السحاب لا تقوى على حمل قطرات المطر إلى أعلى بسبب ثقلها فتخرج من مناطق الخلل أو الضعف في جسم السحابة.
5- في قوله تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ﴾, ونقلنا أقوال المفسرين لهذه الآية, وهذا الذي فهمه هؤلاء المفسرون الذين نقلنا أقوالهم في بيان تفسير الآية هو ما كشف عنه العلم, فلابد أن يكون السحاب في شكل جبلي يسمح بتكوين الثلج في المناطق العليا منه, ويسمح بتكوين الماء الشديد البرودة الذي سيتحول إلى مزرعة للبرد عندما يشاء الله في المنطقة الوسطى من السحابة, وإن البرد يتكون عندما تمكث نواة ثلجية لفترة زمنية كافية وتحتوي على ماء شديد البرودة (ماء درجة حرارته تحت الصفر حتى درجة -40ْم) وتحت هذه الظروف المواتية فإن البرد ينمو بتعدد اصطدامه مع قطرات الماء الشديد البرودة والتي تتجمد بمجرد ملامسته فلابد أن يكون في تلك السحابة شيء من برد ﴿فيها من برد﴾ ويكون المعنى والله أعلم: وينزل من السماء برداً من جبال فيها شيء من برد, والجبال هي: السحب الركامية التي تشبه الجبال, وفيها شيء من برد وهي: تلك البذور الأولى للبرد.
6- في قوله تعالى: ﴿فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ﴾, هذه الفقرة من الآية الكريمة تقرر أن نزول البرد مكاناً وزماناً مرهون بمشيئة الله سبحانه وتعالى, ومع معرفتنا بأن الأمر متعلق بمشيئة الله التي لا نعلمها إلا أن الله قد جعل لكل شيء قدراً، فوقت نزول المطر بيده ونزول البرد بيده سبحانه, ولكن ذلك كله يجرى وفق سنن محكمة.
7- عند قوله تعالى: ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾, يبين الله تعالى أن للبرد برقاً شديد اللمعان, فالضمير في برقه يرجع إلى أقرب مذكور وهو البرد, وسنا البرق: شدة بريقه وضوئه, ﴿يذهب بالأبصار﴾ أي خطفه إياها من شدة الإضاءة, فنسب البرق إلى البرد في كتاب الله تعالى, وقد بيّنا فيما سبق أن البرد يقوم بتوزيع الشحنات الكهربائية في جسم السحابة أثناء صعوده وهبوطه ثم يقوم بالتوصيل بين الشحنات الكهربائية المختلفة فيحدث تفريغاً هائلاً.
وهكذا فإنك إذا تأملت في الآية ستراها ترتب مراحل تكوين السحاب الركامي خطوة خطوة مشيرة إلى التدرج الزمني, وتتجلى أوجه الإعجاز المتعددة في هذه الآية الكريمة إذا طرحنا بين أيدينا هذه التساؤلات:
1- من أخبر محمداً بأن أول خطوة في تكوين السحاب الركامي تكون بدفع الهواء للسحاب قليلا قليلاً؟ ﴿يزجى سحاباً﴾!!, وهذا أمر لم يعرفه العلماء إلا بعد دراسة حركة الهواء عند كل طور من أطوار نمو السحاب.
2- ومن بيّن له أن الخطوة الثانية هي التأليف بين قطع السحب ﴿ثم يؤلف بينه﴾ ؟, ومن أخبره بهذا الترتيب؟.
3- ومن بيّن له أن ذلك يستغرق فترة زمنية حتى يعبر عنه بلفظ (ثم) ؟.
4- ومن أخبر محمداً أن عامل الركم للسحاب الواحد هو العامل المؤثر بعد عملية التأليف؟, قال تعالى: ﴿ثم يؤلف بينه ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً﴾.
5- ومن أخبره أن هذا الركم يكون لنفس السحاب، وأن ذلك الانتقال من حالة التأليف يستغرق بعض الوقت فاستخدم حرف العطف (ثم) ليفيد التراخي في الزمن ﴿ثم يجعله ركاماً﴾؟, هذه المسائل لا يعرفها إلا من درس أجزاء السحاب ورصد حركة تيارات الهواء بداخله, فهل كان يملك الرسول r الأجهزة والبالونات والطائرات والأقمار الصناعية التي تكشف ذلك ؟!
6- وكذلك من الذي أخبر محمداً r بأن عملية الركم (الناتجة عن عملية الرفع) إذا توقفت أعقبها نزول المطر مباشرة ؟ وهو أمر لا يعرف إلا بدراسة ما يجرى داخل السحاب من تيارات وقطرات مائية, وهذا لا يقدر عليه إلا من امتلك الأجهزة والقياسات التي يحقق بها ذلك، فهل كان لمحمد r مثل هذه القدرة وتلك الأجهزة الحديثة ؟.
7- ومن الذي أخبر محمداً r أن في السحاب مناطق خلل وهي التي ينزل منها المطر؟, وهذا أمر لا يعرفه إلا من أحاط علماً بدقائق تركيب السحاب المسخر بين السماء والأرض، وبحركة الهواء داخل السحاب.
8- ومن أخبر محمداً r بأن الشكل الجبلي وصف للسحاب الذي ينزل منه البرد؟ فهل أحصى الرسول r كل أنواع السحاب حتى تبين له هذا الوصف الذي لابد منه لتكوين البرد؟.
9- ومن أنبأه عن نويات البرد التي لابد منها في السحاب الركامي لكي يتكون البرد ﴿وينزل من السماء من جبال فيها من برد﴾, إن هذا السر لا يعرفه إلا من تمكن من مراقبة مراحل تكوين البرد داخل السحاب.
10- ومن الذي أنبأه بأن للبرد برقاً, وأن البرد هو السبب في حصوله ؟ وأنه يكون أشد أنواع البرق ضوءاً ؟ إن ذلك لا يعرفه إلا من درس الشحنات الكهربائية داخل السحاب واختلاف توزيعها ودور البرد في ذلك. ولشدة خفاء هذا الأمر فقد نسب المفسرون البرق إلى السحاب, وإن كان السحاب يشتمل على البرد في كلام المفسرين, ولم نجد من نسب هذا البرق إلى البرد، مع أنه المعنى الظاهر لقوله تعالى: ﴿وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار﴾.
من أخبر محمداً r بكل هذه الأسرار منذ أربعة عشر قرنا ؟ وهو النبي الأمي في الأمة الأمية التي لم يكن يتوفر لديها شيء من الوسائل العلمية الحديثة, فمن أخبره بهذه الأسرار ؟.. لا أحد إلا الله عز وجل الذي نزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيراً, فسبحان من وسع كل شيء علماً... القائل جل وعلا: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾[النمل: 93].
ثانياً: السحاب الطبقي:
اعتبر العلماء الأوربيون في العصور الوسطى أن العالم الطبيعي مظهر للكائنات الروحية، وأن السحب كائنات مقدسة أو أرواح، بالرغم من أن الإغريق في أيام أرسطو كان لديهم بعض المعرفة العلمية عن أن المطر ينتج من البخار، ثم يتكثف البخار إلى ماء، ولم تعرف الأرصاد هذا علمياً إلا في القرن السابع عشر تقريباً حينما أتيحت أجهزة تمكن من قياسات علمية لخواص الغلاف الجوي. أما الفهم العلمي للعمليات التي يترتب عليها تكون السحب الممطرة بما فيها السحاب الطبقي (المزن)، فلم تتم حتى القرن التاسع عشر والعشرين. والعمليات التي تؤدي إلى تكون السحاب الطبقي المزن تضم دورة الرطوبة وانتقالها، ورفع وتبريد الكتل الهوائية الرطبة ودور (نويّات) تكثف السحب في عمل قطرات السحاب، وتكوّن السحب الطبقية، وتكوّن الأمطار من قطرات السحب، واحتمال وجود سحب حمل مطورة.
وهذا السحاب يتكون على شكل طبقات أفقية بعضها فوق بعض, وطبقات رأسية بعضها بجوار بعض. ويبدأ عندما تأتي الرياح ببخار ماء من مناطق ساخنة فتواجه منطقة باردة فيصعد الهواء الساخن فوق المنطقة الباردة (التكثف) ويفرش أفقياً ويزداد امتداده, ثم تأتي الرياح ببخار ماء آخر (ليبسط على الطبقة الأولى), فتتكرر نفس العملية لتكوين طبقة ثانية وثالثة, إلى سبع أو ثمان طبقات أو أكثر من ذلك, فإذا كنت على متن الطائرة ونظرت إلى السحاب الطبقي من الجهة الجانبية لرأيته عبارة عن قطع أفقية بعضها فوق بعض , فإذا وصلت إلى فوق السحاب ونظرت من أعلى فإنك تراه على شكل قطع رأسية بعضها بجوار بعض, ولا ينزل المطر في هذا النوع إلا بعد تكوين الطبقات الكافية لنزوله, ربما من الطبقة الخامسة فما فوق حتى يكون بخار الماء كافياً لتكوين القطرات الثقيلة(37).ويمكن أن نفصل القول في عملية تكون السحاب الطبقي أو الطباقي في هذا البحث على هذا المنوال:
طريقة تكوين السحاب الطبقي:
يمر السحاب الطبقي بمراحل ويمكن ترتيبها كالآتي:
1. ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ﴾:
إن للرياح دورة عامة حول الأرض، وتبلغ هذه الدورة من الدقة والتعقيد والانتظام ما لا يمكن لعاقلٍ أن يرده لغير الله الخالق، فالله هو الذي يرسل الرياح، وهو الذي يصرفها كيف يشاء، ولا يمكن لأحدٍ أن يتحكم في حركة الرياح غيره سبحانه، وأما السنن التي نراها حاكمة لتلك الحركة فهي من صنع الله تعالى وتدبيره، وهي أيضاً محكومة بعلم الله، وحكمته وإرادته، ومعرضة للتغيير والتحويل في كل وقت، وليس أدل على ذلك من التقلبات الجوية، والتغير في مناخ المناطق الأرضية المختلفة من زمن إلى آخر من أزمنة الأرض(38).
2. ﴿فَتُثِيرُ سَحَاباً﴾:
عندما تسطع الشمس فوق المسطحات المائية فإن حرارتها تبخر جزءاً من هذا الماء الذي يرتفع ليعلق بالأجزاء الدنيا من الغلاف الغازي المحيط بالأرض، والذي يندفع إليه أيضاً كميات أخرى من بخار الماء عن طريق تنفس وإفرازات أجساد كل من الإنسان والحيوان، وبخر ونتح النباتات.
ويقدر ما يرتفع من بخار الماء سنوياً من الأرض إلى غلافها الغازي بنحو 280000 من الكيلومترات المكعبة، وتحمل الرياح هذا الكم الهائل من بخار الماء على هيئة السحب، وبنسبة أقل على هيئة درجات متفاوتة من الرطوبة، لتعيده مرة أخرى إلى الأرض حسب تصريف الله تعالى، فيما يعرف باسم دورة الماء حول الأرض.
وتحمل السحب نحو 20% فقط من الرطوبة (الماء) الموجودة في الغلاف الغازي للأرض، ويوجد الماء على هيئة قطيرات صغيرة جداً لا يكاد طول قطرها يتعدى الميكرون الواحد(أي0.001من الملليمتر)، وتلتصق هذه القطيرات المائية بالهواء، فإذا تلقحت تلك السحب بنوى التكثف المختلفة (مثل هباءات الغبار والهباب والأملاح وغيرها من شوائب الهواء)، أو بامتزاج سحابتين مختلفتين في صفاتهما الطبيعية فإن مزيداً من عملية تكثف بخار الماء يؤدي إلى نمو قطيرات الماء في السحب، مما يزيد في إمكان إنزالها المطر أو البرد أو الثلج أو خلائط منها بإذن الله تعالى.
وتتطلب عملية تكثف بخار الماء الموجود في الهواء عموماً استمرار التبريد حتى تصل درجة الحرارة إلى مستوى التشبع (نقطة الندى)، وعندها يصير الهواء غير قادر على حمل كل ما به من بخار الماء فيتكثف جزء منه على هيئة قطيرات الماء.
وتتكون السحب نتيجة لتكثف بخار الماء في الهواء الدافئ الرطب، ويتم ذلك بتبريد هذا الهواء بالتقائه مع جبهة باردة، أو بارتفاعه إلى أعلى فوق الجبهة الباردة، أو بارتطامه بسلاسل جبلية عالية تعين على ارتفاعه إلى مستويات عليا، وفي كل الأحوال يكون إرسال الرياح وتصريفها بمشيئة الله هو الوسيلة الفاعلة في شحنها بالرطوبة، وفي حركة الهواء الرطب أفقياً ورأسياً، ومن ثم إثارة السحب بمختلف أنواعها، ويعين في ذلك كل من حرارة الشمس، وتضاريس الأرض، ودوران الأرض بميل واضح حول محورها من الغرب إلى الشرق، والجاذبية الأرضية، وتدرج معدلات الضغط بين كتل الهواء المختلفة، وكل من الكهربية والمغناطيسية الجويين، وعمليات المد والجزر الهوائيين في المستويات المرتفعة، والرياح الشمسية التي تهب على الأرض، وغيرها من العوامل، ولذلك فإن إنزال المطر من السحب لا يزال قضية غير مفهومة علمياً بالتفصيل؛ لتداخل العديد من العوامل المؤثرة والتفاعلات غير المعروفة فيها، والتي لا يمكن ردها إلا إلى الإرادة الإلهية(39).
3. ﴿فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ﴾:
عندما يرسل الله تعالى الرياح فتدفع بكتلة من الهواء الدافئ الرطب فوق كتلة من الهواء البارد، أو تدفع بكتلة من الهواء البارد تحت كتلة من الهواء الرطب الدافئ، فإن الهواء الدافئ القليل الكثافة يطفو فوق الهواء البارد الكثيف في الحالتين فيتمدد ويبرد، ويبدأ ما به من بخار الماء في التكثف على هيئة قطيرات من الماء، فتتكون مجموعات من السحب المنخفضة غالباً، والتي تنتشر انتشاراً أفقياً في صفحة السماء على هيئة طباقية تمتد إلى عشرات الكيلومترات المربعة في المستوى الأفقي، وبسمك لا يتجاوز عدة مئات من الأمتار، ولذا تعرف باسم السحب الطباقية، وهذه السحب الطباقية تدفعها الرياح في اتجاه أفقي عمودي على اتجاه جبهتها، فتزودها بمزيد من بخار الماء، فيكون انتشارها أساساً في هذا الاتجاه الأفقي، ولكن نظراً لاختلاف درجات الحرارة في داخل هذه السحابة الأفقية الممتدة إلى عشرات الكيلومترات يحدث بداخلها تيارات حمل خاصة عند اصطدامها ببعض تضاريس الأرض، ولذلك فهي عادة ما تكون أكثر أنواع السحب توزعاً في السماء، وتهيئة لإنزال المطر بإذن الله، ويكون إمطارها على مساحات شاسعة على سطح الأرض، ولعل هذا هو المقصود من الوصف القرآني الدقيق الذي قال فيه ربنا تعالى: ﴿فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ﴾(40).
4. ﴿وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً﴾:
عندما تتكون السحب الطباقية يرسل الله تعالى الرياح لتلقحها بنوى التكثف مما يعين على مزيد من نمو قطيرات الماء فيها، ويجعلها مهيأة لإنزال المطر بإذن الله.
وتتخلق السحب الطباقية عادة عند التقاء كتلة من الهواء الرطب الدافئ مع كتلة من الهواء البارد، أو عند اصطدام تلك الكتلة الهوائية الرطبة بتضاريس سطح الأرض؛ وعند ذلك يحدث بداخل تلك السحب الطباقية التي تنتشر أساساً في الاتجاه الأفقي بعض عمليات الرفع إلى أعلى، مما يحدث تيارات حمل رأسية بداخلها تؤدي إلى تمزيقها إلى عدد كبير من القطع المتجاورة؛ ولعل هذا هو المقصود بقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً﴾(41).
5. ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾:
تتكون السحب الطباقية عادة من قطيرات الماء في أجزائها السفلى، ومن قطيرات الماء شديد البرودة في أجزائها العليا، حيث تصل درجة الحرارة إلى ما دون الصفر المئوي بنحو عشر درجات، ومن المعروف أن هذا النوع من السحب لا يتكون بداخله البرد ولا يصاحبه البرق والرعد.
وتظل قطرات الماء في السحب الطباقية تنمو بالتكثف أو بالتصعيد أو بهما معاً إلى حدٍ معين حين تتوقف عمليات التكثف. ولكي تنزل قطرات الماء من خلال السحابة على هيئة المطر لابد من نموها إلى أحجام وكتل تسمح بسقوطها بفعل بالجاذبية الأرضية، كما تسمح بتحملها لعمليات البخر في أثناء هذا النزول في الهواء غير المشبع بين السحابة وسطح الأرض (بمتوسط سرعة في حدود سنتيمتر واحد في الثانية) حتى تصل إلى سطح الأرض على هيئة رذاذ أو مطر. وفي العمر العادي للسحابة فإن قطرات الماء لا يمكنها أن تنمو بالتكثف وحده إلى الحجم المطلوب (عشري الملليمتر في طول القطر على الأقل) ولكن يشاء الله تعالى أن يجعل من تصادم هذه القطرات والتحامها مع بعضها البعض في أثناء نزولها ما يعين على الوصول إلى الحجم والكتلة المطلوبين لنزولها من السحابة ومرورها بسرعة أعلى في عمق الهواء غير المشبع تحت السحابة مما يعين على تقليل كمية التبخر منها. كذلك فإن في الأجزاء العليا من السحب الطباقية يمكن أن يتجمد بخار الماء مباشرة كما قد يتجمد عدد من قطيرات الماء شديدة البرودة على هيئة بلورات من الثلج تنمو بسرعة مكونة رقائق من الثلج الذي ينزل في اتجاه الأرض فينصهر متحولاً إلى قطرات الماء قبل الوصول إليها, ولم يستطع العلم إلى يومنا الراهن أن يفسر عملية إنزال المطر من السحاب تفسيراً كاملاً خاصة أن العديد من السحب تحمل الصفات نفسها وتوجد تحت نفس الظروف الطبيعية والمناخية ويمطر بعضها ولا يمطر البعض الآخر, وعلى ذلك فإن المطر يعتبر سراً من أسرار الكون لم يستطع الإنسان أن يفهمه تماما, وقد رده القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة إلى الإرادة الإلهية, ومن هنا جاءت هذه الآية الكريمة التي يقول فيها ربنا تبارك وتعالى: ﴿فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾(42), أي أن الناس يفرحون بهذا النوع من المطر الذي يسقي مساحات شاسعة, ومع ذلك لا يكون معه شيء من البرد المتلف للزروع, أو الصواعق التي تخيفهم, فهم يفرحون به أشد الفرح.
خصائص هذا السحاب:
1- يتكون على شكل طبقات أفقية وطبقات رأسية .
2- يمتد أفقياً بمسافات واسعة تصل إلى 100-200 كم في السماء.
3- يغطي سبعة أثمان السماء التي فوقنا.
4- لا يسمح بنزول المطر إلا بعد تكوين الطبقات الكافية حتى تتشبع ببخار الماء الكافي.
5- إذا كان هذا السحاب مغطياً على الشمس أو القمر فإن الضوء يظهر محاطاً بحلقة ضوئية.
6- لا يسمح بتكوين البرد فيه لأنه لا يمتد رأسياً إلى أعلى إلا بارتفاع محدود(43).
الظواهر المصاحبة:
هذا النوع من السحاب ينزل منه المطر دون أن تصاحبه الظواهر المزعجة, فلا نرى البرق أو الرعد أو الصواعق أو البرد؛ ولذلك يفرح به الناس فرحاً شديداً(44).
وصف القرآن لهذا النوع :
قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾[الروم: 48]
أوجه الإعجاز في الآية الكريمة:
الوجه الأول:
عرفنا أن السحاب الطبقي يبسط في السماء إلى مسافات واسعة بشكل طبقات أفقية, فهذا هو البسط الأفقي الذي عبر عنه القرآن في قوله تعالى: ﴿فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ﴾ فيمتد 50أو 100أو 150 أو 200 كم , ﴿كَيْفَ يَشَاءُ﴾ أي بالمقدار الذي يريده الله عز وجل , وأما الطبقات الرأسية وهي القطع المتراكمة على بعضها فعبر عنها القرآن بقوله تعالى: ﴿وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً﴾.
الوجه الثاني:
قد عرفنا أن المطر لا ينزل إلا بعد تكون الطبقات الرأسية الكافية لتكوين القطرات الثقيلة, فعندما تتكون هذه القطع فإن المطر ينزل مباشرة, فعبر القرآن عن ذلك بقوله تعالى: ﴿وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾, واستخدم حرف العطف "الفاء" ليفيد الترتيب مع التعقيب, والذي يفيد السرعة, فقال: (فترى) ولم يقل (ثم ترى).
الوجه الثالث:
ولأن مطر هذا السحاب لا يصاحبه برق أو رعد ولا برد ولا صواعق فإن الناس يفرحون به ويستبشرون, فعبر القرآن عن هذا الفرح فقال تعالى: ﴿فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾, ولعل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : «اللهم اسقنا غيثاً ... طبقاً..»(45), إشارة إلى ذلك.
الوجه الرابع:
هذه الطرق المعقدة التي شرحناها في تكوين السحاب الطبقي والتي تحتاج إلى وقت كبير إذا أردت توضيحها لغيرك قد عبر عنها القرآن الكريم بآية واحدة وبعبارات محدودة وبألفاظ دقيقة, بل ومرتباً لجميع الحالات, وشاملاً لكل الخصائص, وهذا وجه من وجوه الإعجاز القرآني(46).
ثالثاً: السحاب المعصر:
هذا السحاب له علاقة كبيرة بالأعاصير، لذلك سنعطي تعريفاً بالأعاصير في هذا البحث:
فالأعاصيرهي عواصف هوائية دوارة حلزونية عنيفة، تنشأ عادة فوق البحار الاستوائية، خاصة في فصلي الصيف والخريف، ولذا تعرف باسم الأعاصير الاستوائية أو المدارية أو الأعاصير الحلزونية؛ لأن الهواء البارد (ذي الضغط المرتفع) يدور فيها حول مركز ساكن من الهواء الدافئ (ذي الضغط المنخفض)، ثم تندفع هذه العاصفة في اتجاه اليابسة فتفقد من سرعاتها بالاحتكاك مع سطح الأرض، ولكنها تظل تتحرك بسرعات تزيد عن72 ميلاً في الساعة وقد تصل إلى أكثر من180 ميلاً في الساعة (أي إلى أكثر من300 كيلومتر في الساعة تقريباً)، ويصل قطر الدوامة الواحدة إلى500 كيلومتر، وقطر عينها إلى 40 كيلومتراً، وقد تستمر لعدة أيام إلى أسبوعين متتاليين.
ويصاحبها تكون كل من السحب الطباقية والركامية إلى ارتفاع15 كيلومتراً ويتحرك الإعصار في خطوط مستقيمة أو منحنية فيسبب دماراً هائلاً على اليابسة بسبب سرعته الكبيرة الخاطفة، ومصاحبته بالأمطار الغزيرة والفيضانات والسيول، بالإضافة إلى ظاهرتي البرق والرعد، كما قد يتسبب الإعصار في ارتفاع أمواج البحر إلى حد إغراق أعداد من السفن فيه.
والأعاصير تدور في نصف الكرة الشمالي في عكس اتجاه عقارب الساعة, وتدور في نصفها الجنوبي مع عقارب الساعة، وتنشأ بين خطي عرض5 و20 شمال وجنوب خط الاستواء, حيث تصل درجة حرارة سطح الماء في بحار ومحيطات تلك المناطق إلى27 درجة مئوية في المتوسط..
وتتحرك عادة من منخفضات استوائية دافئة بسرعات أقل من39 ميلاً بالساعة, ثم تزداد سرعاتها بالتدريج حتى تتعدي72 ميلاً بالساعة, فتصل إلى أكثر من180 ميلاً بالساعة, وعند هذا الحد فإنها تسمي باسم الأعاصير العملاقة، ومثل هذه الأعاصير العملاقة تضرب شواطئ كل من أمريكا الشمالية والجنوبية, وأفريقيا الجنوبية, وخليج البنغال, وبحر الصين, وجزر الفلبين, واندونيسيا, والملايو في حدود ثمانين مرة في السنة, وتجمع تحت مسمي الأعاصير الاستوائية. أما الأعاصير الحلزونية فيهب منها سنوياً بصفة عامة بين30 و150 إعصاراً فوق البحار الدافئة ويصل طول الواحد منها إلى1500 كيلومتر, وتقدر قوته التدميرية بقوة قنبلة نووية متوسطة الحجم(47).
طريقة تكون هذا السحاب:
كما أننا نشاهد أحياناً في اليابسة رياحاً تدور على شكل إعصار سريع يسببه اختلاف تيارات الرياح التي تأتي من اتجاهات مختلفة فيحصل لها تصادم ودوران فيتكون هذا الإعصار, فإن الأمر نفسه يحصل في السحاب المعصر, فعندما يكون بخار الماء قد ارتفع عن البحر وأصبح الجو مشبعاً ببخار الماء, فتأتي تيارات مختلفة الاتجاهات فيحصل لها تصادم فيتكون الإعصار, وهذا الإعصار يولد قوة رفع ترفع بخار الماء إلى ارتفاعات عالية فيتكون السحاب على شكل مخروط (ضيق من الأسفل ومتسع من الأعلى) والسبب في ذلك أنه كلما ارتفع إلى أعلى فإنه يقل الضغط الجوي فيتمدد ويتسع ليظهر على شكل النافورة.
إن هذا النوع من السحاب يرتفع إلى مستويات أعلى من السحاب الطبقي والسحاب الر كامي, وهذا الارتفاع الكبير يجعله يصل إلى مناطق باردة جداً, حيث تتكثف القطرات بصورة أكثر وبالتالي يكون حجمها أكبر؛ ولذلك تنزل قطرات المطر بأحجام كبيرة جداً على شكل أمطار غزيرة.
ويكثر هذا النوع من السحاب في المناطق الإستوائية التي على خط الإستواء, ومن المعلوم أن خط الإستواء حار جداً (أحر بقعة على سطح الأرض) فلذلك يكون الهواء ساخناً, فيرتفع بخار الماء باستمرار وتحركه الرياح إلى مدار الجدي ومدار السرطان, فعندما يرتفع يبرد هذا البخار ويتكثف, وارتفاع هذا البخار يحدث فراغاً في الأسفل ليحل محله هواء آخر ليكتسب السخونة فيرتفع مرة أخرى, وهكذا تنشأ الدوامات لتكون سحاباً معصراً.
أما نزول هذا المطر في هذا النوع فإنه ينزل على شكل زخات متقطعة, والسبب أن تلك الزخة التي نزلت هي كمية القطرات التي رفعت وتكثفت ثم نزلت على شكل زحة ثم توقفت لتأتي عصرة أخرى تعصر هذا السحاب فتكون الزخة الثانية, فكأنه عبارة عن قطعة من القماش ممتلئة بالماء وكلما عصرتها نزلت زخة جديدة وهكذا.
النتائج المترتبة عن السحاب المعصر:
إن نزول المطر من السحاب المعصر وبكميات غزيرة جداً على المناطق الإستوائية يجعل النباتات تنمو فيها بشكل كبير, فنلاحظ الأشجار الكثيفة المكونة للغابات الواسعة ذات الأشجار الملتفة جذوعها حول بعضها, كذلك تتشابك هذه الأشجار فيما بينها من أعلاها فتكون غابات مظلمة حتى أن الذي يدخلها في وسط النهار يحتاج إلى مصابيح للإضاءة, أما الحشائش المتسلقة على هذه الأشجار, فإنها تعيش على مصدر ضئيل من الضوء, وإن الحرارة الشديدة في هذه المناطق تسبب الكثير من الحرائق في هذه الغابات, وهذه الحرائق سبب من أسباب تخصيب هذه الأراضي الزراعية, وهذه حكمة من الله عز وجل.
الوصف القرآني لهذا النوع:
قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً﴾[النبأ: 14-16],وقد قال بعض المفسرين أن المعصرات هي الرياح وقال بعضهم هي السحاب, ولا تعارض بين القولين فالرياح هي السبب في جعل السحاب معصراً بسبب عصرها لهذا النوع من السحاب.
والثجاج هو المتدفق بشدة دفقة بعد دفقة, ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل: أي الحج أفضل ؟, قال: «العج والثج»(48).
فالثج هو تدفق الدماء عند النحر.
فانظروا كيف اختلف الوصف في تكوين السحاب المعصر عن السحاب الطبقي والركامي, وكيف اختلف الوصف للظواهر المصاحبة لها, ثم كيف اختلف الوصف للنتائج المترتبة عنها .
أوجه الإعجاز:
تتجلى لنا أوجه الإعجاز في الآيات الكريمة التي تصف السحاب المعصر إذا طرحنا على أنفسنا هذه التساؤلات:
1- من أخبر محمداً r بأن هناك نوعاً من السحاب يكون بالشكل المعصر ﴿مِنَ الْمُعْصِرَاتِ﴾, وهذه لا يعرفها إلا من درس جميع أنواع السحاب, ووصل إلى الارتفاعات العالية التي تكشف له هذه الحقائق, فهل كان هذا ممكناً في زمن محمد r ؟!!.
2- ومن أخبر محمداً r أن السحاب المعصر ينتج عنه مطر غزير بدفعات متقطعة ﴿مَاء ثَجَّاجاً﴾, ومن أخبره بأن هذا النوع من المطر لا يكون إلا من السحاب المعصر.
3- ومن أخبر محمداً r بأن هذا المطر إذا نزل في منطقة من الأرض فإنه يكون سبباً في إنبات جنات ملتفة حول بعضها ؟, ومن أخبره بأن هذا النوع من الجنات الملتفة لا تكون ناتجة إلا عن السحاب المعصر ؟. إن هذا لا يعرفه إلا من عرف تضاريس الأرض, وعرف ماذا يحدث على خط الإستواء, وعرف خصائص النباتات والبساتين التي في هذه المناطق, فهل كان هذا متيسراً لمحمد r النبي الأمي الذي عاش في الصحراء ؟, ثم تأمل معي سياق الآية وبلاغتها بهذا الوصف الدقيق, فكأنك ترى غزارة الأمطار والسحاب يعصر عصراً والماء يتدفق منه بشدة, والجنات تلتف حول بعضها, فكأنك تشاهد وتحس بهذا وأنت تقرأ هذه الآيات ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً﴾, فمن جمع له هذه المعلومات الدقيقة بهذه المعاني المضبوطة وبهذه العبارات السهلة الواضحة, وبهذه الكلمات المختصرة, مع جمعها وشمولها لجميع مراحل السحاب المعصر, إنه الله عز وجل القائل: ﴿لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً﴾[النساء: 166].
الخاتمة:
إنك تجد الوصف لأنواع السحاب الثلاثة دون أن تدخل صفة من صفات سحاب في صفات الآخر, ودون خلط في النتائج أو الظواهر المصاحبة, بل يصف القرآن كل نوع بطريقة تكوينه والظواهر المصاحبة له والنتائج المترتبة عليه بأخصر العبارات وأدق الألفاظ وأبسط الأساليب, فأي بلاغة أعظم من بلاغة هذا الكتاب الكريم, وأي فصاحة في التعبير عن الحقائق أبلغ من هذه الفصاحة, فيصف القرآن الكريم هذه الحقائق التي استغرق العلم المادي في البحث عنها زمناً طويلاً واستخدم أحدث الطائرات التي تستخدم في البحوث العلمية في علم الأرصاد, واستخدم الأقمار الصناعية حتى توصل إلى جمعها وترتيبها وتقديمها بعد ذلك.
فعندما نعرف هذا ندرك كم اختصرت الآيات من العلوم, وكم عبرت الأحرف والكلمات عن هذه الحقائق. أيمكن أن يكون هذا من قول بشر؟, بل هل يمكن أن تكون هذه العلوم من كل البشر في ذلك الزمن؟, إن هذا وعد الله يتحقق وفيه علم الله عز وجل, قال تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾[النمل:93], ونحن اليوم في الزمن الذي تحقق فيه رؤية ومشاهدة هذه الحقائق ليزداد المؤمن إيماناً وتثبيتاً لليقين في قلبه, ولتكون حجة على الكافرين المعاندين, قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[فصلت:53](49).