اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(48)وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ(49)فَانظُرْ إِلَى ءاثَارِ رَحْمتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(50)سورة الروم |
يأس وقنوط...وظن أن لا أمل ولا فرج...
وتمرّ لحظات، فتتسع الغيوم في السماء ثمّ تغلظ وتكون أكثر كثافةً، ثمّ ينزل «القطر» والغيث، وتمتلىء الحفر بالماء الزلازل، وتفيض الروافد والسواقي الصغيرة والكبيرة من هذه المائدة السماوية، وتعود الحياة النضرة إلى الأرض اليابسة، كما تتبرعم الآمال في قلوب الرحّل في الصحراء ويشرق الأمل في قلوبهم، وتنجلي عنها غيوم الظلمة واليأس والقنوط!
ويبدو أن تكرار كلمة «من قبل» في الآية للتأكيد، إذ تبيّن الآية أن الوجوه كانت عابسة متجهمة من قبل المطر بلحظات، أجل... لحظات قبل المطر، وهم قلقون ولكن حين ينزل عليهم الغيث... تشرق فجأة الوجوه وتبتسم الشفاه، فكم هو موجود ضعيف هذا الإنسان! وكم هو رحيم هذا الربّ.
ومثل هذا التعبير وارد في كلماتنا العرفية حيث نقول مثلا: إن فلاناً كان بالامس، نعم بالامس صديقاً لنا، واليوم هو من اعدائنا... والهدف من هذا التكرار هو التأكيد على تغيير حالات الإنسان.
وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يتوجه الخطاب إلى النّبي(صلى الله عليه وآله) قائلا: (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها ).
والإهتمام أو الإعتماد على كلمة «انظر» هو إشارة إلى أن آثار رحمة الله في إحياء الأرض بالمطر، هي من الوضوح بمكان بحيث تكفي نظرة واحدة لمشاهدة هذه الآثار، دون حاجة للبحث والتدقيق.
والتعبير بـ(رحمة الله ) في شأن المطر هو إشارة الآثار المباركة فيه من جهات مختلفة!.
فالمطر يسقي الأرض ويرعى بذور النباتات... ويهب الأشجار الحياة الجديدة!
وهو ينقىّ الجو والمحيط من الغبار المتراكم أو المتناثر في الفضاء.
وهو يغسل النباتات ويمنحها النضرة والطراوة!.
وهو يمضي إلى أعماق التربة والأرض، وبعد فترة يعود على شكل عيون وقنوات إلى سطح الأرض.
والمطر يدفع الأنهار والسيول وبعد تجمعها خلف السدود يتولد منها «الكهرباء» أو الطاقة والنور والحركة!.
وأخيراً فإنّ قطر السماء يحسّن الجوّ إذ يخفف من شدّة الحر، ويهدىء من شدّة البرودة.
والتعبير بـ «الرحمة» عن المطر مذكور في عدة آيات من القرآن كما في الآية (48) من سورة الفرقان، والآية (63) من سورة النمل، ونقرأ كذلك في سورة الشورى الآية (28) قوله تعالى: (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته ).
ومع الإلتفات إلى العلاقة بين المبدأ والمعاد في المسائل المختلفة فإن «القرآن» يضيف قائلا في نهاية الآية: (إنّ ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير ).
والتعبير بـ «محيي» بصيغة اسم الفاعل مكان الفعل المضارع، وخاصّة مع كونه مسبوقاً بلام التوكيد، دليل على منتهى التأكيد.
ولقد رأينا مراراً في آيات القرآن الكريم، أن هذا الكتاب السماوي ـ من أجل إثبات مسألة المعاد ـ ينتخب نزول الغيث وإحياء الأرض بعد موتها شاهداً على ذلك!.
ففي سورة (ق) الآية (11) يعقب القرآن بعد التعبير بحياة الأرض بعد موتها قائلا: (كذلك الخروج )!
ويشبه هذا التعبير في الآية (9) من سورة فاطر إذ يقول القرآن: (كذلك النشور ).
والواقع أن قانون الحياة والموت في كل مكان متشابه.. فالذي يحي الأرض الميتة بقطرات السماء، ويهبها الحركة والبهجة، ويتكرر هذا العمل على طول السنة، وأحياناً في كل يوم، فإن له هذه القدرة على إحياء الناس بعد الموت، فالموت بيده في كل مكان، كما أن الحياة بأمره أيضاً.
صحيح أن الأرض الميتة لا تحيى ظاهراً، بل تنمو البذور التي في قلب الأرض، ولكننا نعلم أن هذه البذور الصغيرة تجذب مقداراً عظيماً من أجزاء الأرض إلى نفسها، وتحوّل الموجودات الميتة إلى موجودات حية! وحتى بقايا هذه النباتات المتلاشية ـ أيضاً ـ تمنح القدرة والقوة للأرض لكي تحيى من جديد.
وفي الحقيقة لم يكن لمنكري المعاد أي دليل على مدعاهم سوى الاستبعاد، والقرآن المجيد إنّما يستشهد بهذه الأمثال لإحباط هذا الاستبعاد منهم أيضاً.