قال تعالى : ( اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
هذه الآيات من سورة الروم ، إذا أراد الإنسان أن يتأملها فلفظ الجلالة ( الله ) يوحي بالعظمة التي لا منتهى لها بأنه لم يتسمى أحد بهذا الاسم ، (يُرْسِلُ الرِّيَاحَ) ولم يقل " الريح " حتى تقترن بشيء من الرحمة ، لأن الريح مفردة تتلبس بالعذاب أكثر .
(الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً) وهذا لا يقدر عليه إلا الله ، (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) فذكر الله حالين :
حالة بسط : أي ممتد ، وحالة كونه – أي السحاب – قطعا .
وقوله تبارك اسمه وجل ثناؤه (كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) كيف هنا مجردة من الاستفهام ، وإنما هي نابَتْ عن المصدر فموقعها المفعولية المطلقة ، والمعنى يبسطه بسطا كيفية ذلكم البسط على ما يشاء .
(وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ) الودق : أي المطر ، (يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِه) فليس للناس الاختيار ولا للسحب ، الأمر يد الله ، (إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أراد الله أن يبين سرعة تقلب بني آدم ، فقال : (وَإِن كَانُوا) بعد أن ذكر الاستبشار ( وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم) ثم أعاد قال : (مِّن قَبْلِهِ) قال العلماء كرر الإعادة : لعل في ذلك تبليغ بطول العهد ، أي المطر ، ( وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ) الإبلاس : اليأس مع الانكسار .
(وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ) (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ) ليس المقصود حصرها في شيء معين فإن كان في آثار المطر أكثر لكن رحمة الله لمن تأمله في كل شيء وجدها ظاهرة برهان على عظيم رحمة الله وسعتها تبارك اسمه وجل ثناؤه .
(فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) وهذا سبل التعجب ، وشبه الأرض الموات بكونها جدباء بأنها أرض موات وهذا سائغ في اللغة ، ثم قال وهذا هو المقصود من سياق كله : أن يجعل الإنسان ما يراه في الدنيا دليلا له على ما يقع في الآخرة ، (إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى) وقد دلت الآثار على أن مطر ينزل من السماء فيكون الجسد الآدمي قد بلي واضمحل (وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ) أي اضمحللنا ، فيبقى عجب الذنب كما أن البذرة في الأرض إذا رويت بالأمطار نبتت فيبقى عجب الذنب من بني آدم لا يبلى فيأتي هذا المطر من السماء فينبتون كما ينبت البقل كما عند مسلم في الصحيح ، فربنا يقول : (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ) وذكر الاستبشار ورغم أن الغيث الذي في بلادنا قطعا كما ذكر في الإعلام أن مات فيه خلق وفقد أموات ، أولا : نسأل الله جل وعلا لهؤلاء الأموات أن يغفر لهم ويرحمهم ، ونعزي أهاليهم بأن هؤلاء الأموات معدودون من الشهداء فإن الغرقى شهداء لكن مع هذا الذي حصل ومع ما شاع ونقل من أن هناك موتى هنا وهناك إلا أن الاستبشار بالغيث واقع عند الجميع مصداق لقول ربنا : (فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) هنا قال: ( فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى ) ، وحتى لا يقف فهم أحدا على أن المقصود أن الله لا يقدر إلا على هذا جاء التذيل في الآية بقول الله جل وعلا : (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) على إحياء الموتى وعلى غيره ، فالله جل وعلا يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد
منقول