طيار أردني يقضي 4 أعوام من حياته بين الغيوم
29 ألف ساعة طيران، أي ما يعادل أربعة أعوام قضاها الكابتن الطيار جودت رباح محلقا بين الغيوم متنقلا بين أرجاء المعمورة، ليحقق بذلك رقما قياسيا لأطول فترة طيران يسجلها طيار على الصعيد المحلي.
رباح واحد من أكفأ الطيارين الذين عملوا في الملكية الأردنية، وتشهد له بذلك أعوامه الـ39 التي أمضاها في هذه المهنة منذ بدأ برتبة مساعد طيران حتى وصوله إلى رتبة كابتن ومدرب ليتم تكريمه بعد تقاعده وسط احتفاء وتقدير كبيرين في نفس يوم ميلاده في الخامس والعشرين من الشهر الماضي.
رحلة طويلة وشاقة بدأت معه بحلم طفولي بريء غدا بالإصرار والمثابرة حقيقة، فمنذ كان في السادسة من عمره وهو يحلم أن يصبح طيارا، وكان كلما رأى طائرة تحلق يشير إلى السماء ليخبر والدته أنه سيطير بواحدة من هذه الطائرات ذات يوم لتلتفت إليه بابتسامة توحي بأن حلمه كبير ومن الصعب تحقيقه.
مسيرة رباح مع الأجواء بدأت منذ العام 1967 حين درس الطيران في ولاية تكساس الأميركية وعمل بعد تخرجه في ليبيا مع شركات التنقيب عن البترول لمدة عام ليعود بعدها إلى ارض الوطن وينضم العام 1970 إلى الملكية الأردنية، التي كانت تسمى آنذاك طيران عالية، ليباشر عمله فيها برتبة مساعد طيار.
ويعود في ذاكرته إلى بدايات عمله في تلك الفترة حين كانت الملكية تضم نحو 12 كابتن طيران و12 مساعد طيار في العام 1970 و3 طائرات من نوع كرافيل في أسطولها الجوي حتى أصبحت اليوم موئلا لـ350 طيارا و27 طائرة تتنوع بين طائرات بوينغ وإيرباص 340 و320 و310 وطائرات إمبريار 195 و175، لافتا إلى أنه عايش التطور الذي مر على الملكية ولمسه من خلال تدرجه في مهنته.
رباح، الذي خضع في بداية عمله لتدريب استمر مدة عام لينتقل بعدها إلى مرحلة أخرى هي مساعد أول ثم مساعد طيار، يبين أن فترة التأهيل اشتملت على خوض العديد من التدريبات والدورات والامتحانات المدموجة بساعات طيران حقيقية من خلال القيام برحلات لاجتياز الامتحانات التي تمنحه رتبة كابتن، والتي تتطلب ما يقارب من 7 إلى 10 أعوام.
قيادة الطائرة ليست بالأمر السهل، حسب رباح الذي يرى أن لها متعة لا يمكن وصفها وخصوصا في لحظات الإقلاع الصعبة التي تتطلب تركيزا عاليا ودقة في اختيار الوقت المناسب لرفع عجلات الطائرة.
التحليق بين الغيوم والنظر إلى الأرض من أعلى مشهد يشكلان لوحة بديعة لا يضاهيها شيء، مبينا أن اختراق طبقات الغيوم البيضاء ورؤية شروق الشمس من أعلى أو مشاهدة السماء ليلا، كل ذلك لا يمكن تخيل المشاعر التي ترافقه، ليدرك حينها أنه "محظوظ جدا".
وفيما يتعلق بالمواصفات التي يجب توفرها في الطيار، يجملها رباح بصحة الجسد، إذ لا بد أن يخضع الطيار لفحص طبي شامل ويمنح رخصة في ذلك "شهادة فحص"، فضلا عن تمتعه بالهدوء والتروي والقدرة على اتخاذ القرار الحكيم في اللحظات الصعبة وخصوصا في حالات الطوارئ، إضافة إلى الصبر.
أنواع مختلفة من الطائرات قادها رباح خلال مسيرته التي استمرت 39 عاما، بدأها بقيادة طائرة كرافيل الفرنسية لينتقل بعدها إلى قيادة طائرة البوينغ 707 وبوينغ 720 ثم طائرة الإيرباص 310 وطائرتي إمبراير 195 و175، موضحا أن الانتقال بين طائرة وأخرى "يتطلب الحصول على تدريب يستلزم نحو ثلاثة أشهر تتم خلالها دراسة خاصة للطائرة وتركيبها والتعرف على معداتها".
انتقل الكابتن رباح خلال مسيرته العملية بعد عمله في الملكية بين العامين 1970-1979 إلى الخطوط المالطية حتى العام 1983 ليعود للعمل في الملكية العام 1986 في الشحن الجوي 3 أعوام ومن ثم يصبح بعدها طيارا لنقل المسافرين.
وإلى جانب كونه كابتن طيار، عمل رباح مدربا للمستجدين في مركز التدريب التابع لطيران الملكية الأردنية، مبينا أن التدريب لا يقتصر على دورات وساعات متخصصة بقيادة الطائرة، وإنما يضم تدريبات تتعلق بإدارة أنظمة الاتصال الداخلية بين أفراد الطاقم وإدارة غرفة القيادة وأخرى تتمحور حول الطيران الآمن والتعامل مع حالات الخطر أثناء الرحلات.
ويشيد رباح بالعناية الاحترافية التي تخصصها الملكية الأردنية لطياريها في مجال التدريب وعقد الدورات التأهيلية التي جعلت من طياريها ينافسون الخطوط العالمية من حيث التأهيل الفني والقيادي الذي توفره للعاملين فيها بهدف إطلاعهم على آخر المستجدات والتغيرات ليكونوا مؤهلين دوما.
وبخصوص ساعات الطيران، يوضح رباح أنه يسمح للطيار بالتحليق سنويا نحو 950 ساعة طيران، أي 95 ساعة شهريا و40 ساعة أسبوعيا، منبها إلى أن هذه الساعات تعتمد على نظام محدد من سلطة الطيران المدني.
أما الحد المسموح للطيار التحليق به بشكل مستمر، فهو 12-14 ساعة تتم خلالها مراقبة الطيار وصحته للتأكد من أنه قادر على المتابعة.
وخلال مسيرته الطويلة، يشير رباح إلى أن أصعب فترات القيادة هي لحظة الإقلاع، مرجعا السبب في ذلك إلى وجود سرعات محددة بفروقات تتطلب التركيز والهدوء بدءا من سرعة الاستعداد التي تمكن الطيار من إيقاف الطائرة في حال حدوث طارئ أو عدم خلو المدرج مرورا بالانتقال من السرعة الارتدادية ووضعية الإقلاع حين تكون الطائرة شبه عمودية، وكل ذلك خلال ثوان.
ومن الصعوبات التي تواجه الطيار التحليق خلال الأجواء الضبابية، الذي يكون محفوفا بالمخاطر وما يرافق ذلك من لحظات عصيبة يتم اجتيازها بتوتر، إضافة إلى التحليق فوق المناطق الاستوائية نتيجة وجود الصواعق، وفق رباح.
ومن الحوادث التي تعرض لها خلال مسيرته، يستذكر حادثتين أولاهما ما حصل معه العام 1973 عندما قام أربعة باختطاف الطائرة التي كان فيها أثناء توجهها إلى العقبة، وتم إجبار الطاقم على تغيير خط الرحلة ليتوجهوا إلى ليبيا تحت تهديد السلاح.
أما الحادثة الثانية، التي ما تزال صورتها عالقة في مخيلة رباح، فتعود إلى العام 1975 عندما كادت طائرته تصطدم بطائرة تابعة للخطوط البريطانية المقلعة من قطر أثناء تحليقه بطائرة بوينغ 707 مقلعا من بانكوك باتجاه عمّان على ارتفاع 37 ألف قدم فوق منطقة الخليج ليسمع أثناءها هدير محرك الطائرة الأخرى، لتتم النجاة من الحادث بأعجوبة.
وبعد رحلة طويلة قضاها رباح متنقلا من مكان إلى آخر، يستعد بعد أن تقاعد لإنجاز مشاريع خاصة فيه ربما لم يكن متفرغا لها لطبيعة عمله.