أول أمر ظهر في (أبو بكر) .. هو اليقين الكامل بصدق ما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
دون جدال أو نقاش أو تنطع..
ما نهى عنه ينتهي..
وما أمر به يأتي منه ما استطاع..
ونجد مصداق ذلك في أحداث كثيرة منها..
عُرِض الإسلام على (أبي بكر)..
وأن يدخل في دين جديد ما سمع به من قبل..
وأن يترك دين الآباء والأجداد..
وأن يخالف الناس أجمعين..
ويتبع رجلا واحدا.. أمر عجيب لا بد أن نلتفت إليه...!
يقول (صلى الله عليه وسلم)..
"ما دعوتُ أحدا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر..
إلا أبا بكر.. ما عتم (ما كف) عنه حين ذكرته .. وما تردد فيه .. "
سبحان الله .. عنده يقين كامل أن هذا الرجل (صلى الله عليه وسلم) لا يكذب..
وفي حادثة الإٍسراء ..
أخرج الحاكم في مستدركه عن عائشة رضي الله عنها قالت:
جاء المشركون إلى أبي بكر فقالوا: هل لك إلى صاحبك؟
يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس..
قال: أوقال ذلك؟
قالوا: نعم..
فقال: لقد صدق..!
دون أن يذهب إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليستوثق منه..
ثم يعطي التبرير لمن يستمع له..
ثم قال .. إني لأصدقه بأبعد من ذلك بخبر السماء غدوة وروحة...
وتقول بعض الروايات .. إنه لأجل هذه الحادثة سمي (أبا بكر) بلقب الصديق..
والثابت أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو الذي سماه..
فقد روى البخاري عن أنس..
أن النبي (صلى الله عليه وسلم) صعد أحد.. وأبو بكر وعمر وعثمان..
فرجف بهم..
فقال (صلى الله عليه وسلم).. "اثبت أحُد.. فإنما عليك نبي وصدّيق وشهيدان.. "
بل في رواية الحاكم في المستدرك عن النزال بن سبرة رحمه الله ..
أن الذي سماه بذلك هو الله ..
قال النزال بن سبرة: قلنا لعلي: يا أمير المؤمنين.. أخبرنا عن أبي بكر..
قال: ذاك امرؤ سماه الله الصديق على لسان جبريل.. وعلى لسان محمد (صلى الله عليه وسلم)..
وكان خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. رضيه لديننا.. فرضيناه لدنيانا..
ويقول الله (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ)
الذي جاء بالصدق محمد (صلى الله عليه وسلم)..
والذي صدق به هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه..
كما أننا نجد أن حياة (الصديق)... ما هي إلا تصديق مستمر ومتصل لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
فالموقف مثلا في صلح الحديبية .. كان شديد الصعوبة..
فالرسول (صلى الله عليه وسلم) كان قد رأى في منامه أنه يدخل المسجد الحرام.. ويعتمر الناس..
ثم لم يحدث هذا في ذلك العام..
ثم عقدت معاهدة بنودها في الظاهر مجحفة وظالمة للمسلمين..
ثم طبقت المعاهدة على أبي جندل بن سهيل بن عمرو مباشرة بعد إتمام المعاهدة..
فرده رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى المشركين لما جاءه مسلما في مشهد مأساوي مؤثر...
كل هذه الأمور وغيرها ..أثرت كثيرا في نفسية الصحابة ..
وكان من أشدهم غما وهما ... (عمر بن الخطاب)..
فذهب (عمر) على عظم قدره وفقهه.. إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
فقال .. يا رسول الله... ألست نبي الله حقًا؟
وهو لا يشك في ذلك قطعا...لكنه يبدي استغرابه مما حدث..
قال (صلى الله عليه وسلم) .. "بلى"
قال (عمر) .. ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟
قال (صلى الله عليه وسلم) .. "بلى"
قال (عمر) .. أليس قتلانا في الجنة.. وقتلاهم في النار؟
قال (صلى الله عليه وسلم) .. "بلى"
قال (عمر) .. علام نعطي الدنية في ديننا إذن؟
وعمر هنا ليس قليل الإيمان..
بل بالعكس يريد ما هو أشق على النفس..
ولا يسأل التخفيف أو التغاضي..
والرسول (صلى الله عليه وسلم) كان من عادته أن يوضح.. ويبين للناس..
لكن هنا الرسول يربي على الاستسلام دون معرفة الأسباب..
ودون معرفة الحكمة..
ما دام الله قد أمر...
فقال (صلى الله عليه وسلم) .. "إني رسول الله .. وهو ناصري .. ولستُ أعصيه"
قال (عمر) .. أولست كنت تحدثنا إنا سنأتي البيت ونطوف به؟
قال (صلى الله عليه وسلم) .. "بلى.. فأخبرتك أنك تأتيه العام ؟!"
قال (عمر) .. لا ..
قال (صلى الله عليه وسلم) .. "فإنك آتيه ومطوّف به"
والرسول (صلى الله عليه وسلم) صابر جدا في حديث (عمر)..
لأنه يعلم ما به من الغم ويعذره..
وهذه درجة عالية جدًّا من درجات الإيمان وهي غليان القلب حمية للدين.
لكن تعال من الجانب الآخر وانظر إلى (أبي بكر)..
يقول (عمر) ..
فأتيت أبا بكر
فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقًّا؟
قال: بلى..
قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟
قال: بلى..
قلت: أليس قتلانا في الجنة.. وقتلاهم في النار؟
قال: بلى..
قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟
قال: أيها الرجل.. إنه لرسول الله.. وليس يعصي ربه.. وهو ناصره..
فاستمسك بغرزه حتى تموت... فوالله إنه لعلى حق...!
فانظر هنا كيف يغضب الرجل الرقيق..
لأنه شعر أنه في هذه التلميحات إشارة ولو من بعيد ..
إلى شك في وعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
فسأله (عمر) .. أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟
قال (أبو بكر) .. بلى.. فأخبرك إنك تأتيه العام؟
قال (عمر) .. لا ..
قال (أبو بكر) .. فإنك آتيه ومطوّف به .. !
ولعلنا نلاحظ التشابه الشديد بين ردود الصديق ...
وردود رسول الله (صلى الله عليه وسلم)...
سبحان الله ..
يقين تام ..
ليس فيه ذرة شك من كلام رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
يقول (عمر) .. ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ ..
مخافة كلامي الذي تكلمت به..
لقد كان هذا اليقين أيضا يفسر لنا موقفا عجيبا من مواقف (الصديق)...
وهو موقف إعلان الحرب على الفرس..
فور الانتهاء من حرب الردة..
فهذا من أعجب مواقف التاريخ على الإطلاق.. ولنحسبها بحساباتنا المادية البشرية..
فالدولة دولة ناشئة لا تشتمل إلا على جزيرة العرب فقط...
والدولة ليس لها تاريخ في الحروب النظامية..
فهي مجموعة من القبائل جمعها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منذ أعوام قلائل...
والدولة خارجة من حرب أهلية طاحنة.. هي حروب الردة الضارية
والتي ارتدت فيها كل جزيرة العرب باستثناء ثلاث مدن وقرية...
والفرس دولة تقتسم العالم مع دولة الروم..
أي أنها إحدى الدول العظمى في العالم...
وتاريخ الفرس قديم في الحروب النظامية... وجيوش الفرس تجاوز الملايين...
والجيش الإسلامي المعد لحرب الفرس لم يكن يتجاوز الـ 10 آلاف ..
ثم وصلوا إلى 18 ألفا عند اكتمال العدة..
وهو عدد لا يمثل قوة مدينة واحدة من مدن الفرس...
كل هذا وغيره..
ومع ذلك يأخذ هذا القرار العجيب بالتوجه لفتح هذه البلاد.
وحتى تفهم هذا القرار ...
ارجع وادرس الموقف في ضوء اليقين الذي تحلى به (الصديق)..
أولا
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد بشر بغلبة هذا الدين بصفة عامة على كل الأمم..
والأحاديث أكثر من أن تذكر في هذا المجال..
وعلى سبيل المثال ما جاء في صحيح مسلم عن ثوبان ..
"إن الله زوى لي الأرض.. فرأيتُ مشارقا ومغاربها.. وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها"
ثانيا
لقد سمع (أبو بكر) بشارة من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أكثر تخصيصا..
فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لمشركي قريش..
وكان فيهم أبو جهل..
فقال (صلى الله عليه وسلم) .. "أرأيتم إن اعطيتكم كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب .. ولا نت لكم بها العجم.."
فقال (أبو جهل).. ما هي؟ وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها..
قال (صلى الله عليه وسلم).. "تقولون لا إله إلا الله .. وتخلعون ما تعبدون من دونه"
فصفقوا بأيديهم وقالوا... أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها وحدا؟ إن أمرك لعجب...
و(أبو بكر) قد قال كلمة لا إله إلا الله وصدق بها وعمل بها ..
وجيش (أبي بكر) كذلك... فلماذا لا يُنصر؟
بل العجب كل العجب ألا يُنصر..
ثالثًا
سمع (أبو بكر) بشارة أكثر تخصيصا أيضا من تلك التي سبقت..
فقد كان مع المسلمين في حفر الخندق في الأحزاب ..
يوم اعترضت المسلمين صخرة كبيرة..
فقام إليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وضربها..
وكان مما قال .. "الله أكبر.. أعطيتُ فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الآن"
رابعا
رأى (أبو بكر) بعينه وسمع بأذنه هو دون بقية الصحابة ..
ما حدث في طريق الهجرة من مكة إلى المدينة ...من أمر سراقة بن مالك..
ورأى أقدام فرسه تسوخ في الرمال..
ثم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول لسراقة.. "كيف بك إذا لبستَ سواري كسرى؟"..
خامسا
حضر (أبو بكر) مباحثات رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مع بني شيبان أيام مكة..
ولما رفض بنو شيبان الدعوة الإسلامية..
لأنهم اشترطوا شرطًا أن لا ينصروه إذا حارب الفرس..
فإنهم ليست لهم طاقة بحرب الفرس..
قال لهم (صلى الله عليه وسلم) .. "أرأيتم إن لن تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم ..
ويفرشكم نساءهم .. أتسبحون لله وتقدسونه؟!"
فقالوا .. اللهم لك هذا ..
سادسا
كان هناك أكثر من ذلك ..
فقد حدث من (أبي بكر) ما يذهب العجب عندك حينما تعلمه..
فإنه في أوائل الفترة المكية قد نزل القرآن الكريم بمقدمات سورة الروم وفيها..
(الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ
فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ)
وكان هذا إخبار بما حدث من هزيمة الروم وبما سيحدث من انتصارهم لاحقا على الفرس..
فذهب (أبو بكر) يذكر ذلك للمشركين يغيظهم به..
وقد كان المسلمون يفرحون لنصر الروم... لأنهم أهل كتاب..
بينما يفرح المشركون لنصر الفرس... لأنهم وثنيون مثلهم..
فقال (أبو بكر)... ليظهرن الروم على فارس.. أخبرنا بذلك نبينا..
فصاح به (أُبَي بن خلف الجمحي).. كذبت يا أبا فصيل..
فقال الصديق... أنت أكذب يا عدو الله..
قالوا.. هل لك أن نقامرك..
فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين فمضت السبع.. ولم يكن شيء..
ففرح المشركون بذلك..
فشق على المسلمين..
فذُكر ذلك للنبي (صلى الله عليه وسلم)..
فقال (صلى الله عليه وسلم) .. "ما بضع سنين عندكم؟"
قالوا.. دون العشر ..
قال (صلى الله عليه وسلم) له.. "اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل"
يقول (أبو بكر) .. فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس...
إذن هل يوقن (الصديق) بنصر النصارى على الفرس ..
ولا يوقن بوعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بنصر المسلمين على الفرس وغيرهم؟
هذا والله أبدا لا يكون...
كانت هذه بعض المواقف التي دلت على يقين الصديق فيما قاله رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
يقينا تاما.. لا يعتريه شك