في طفولتي الغابرة... كنت أجد حلاً واحداًً لكل مشاكلي مع الآخرين... كان حلاً بسيطاً لا يكلفني شيئاً من الجهد والعناء... لقد كنت دائماً أتمنى الموت لكل من يسبب لي معضلة حقيقية أو مشكلة كبيرة لا أستطيع لها دفعاً... وربما تطور هذا التمني إلى دعاء حارّ وابتهال خاشع بأن يقضي الله عليه ويريحني منه إلى الأبد...
تذكرت تلك الأمنيات والدعوات عندما سمعت ابنتي الصغرى تدعو على معلمتها الجديدة قائلة: ليتها تموت ونرتاح منها!! وتذكرت ذلك قبل أيام عندما سمعت ابني الكبير يدعو على أولاد الجيران المزعجين بالموت لكي يرتاح من شرهم!!...
وتساءلت في نفسي... لماذا لم أعد ألجأ إلى هذه الأمنية وهذا الدعاء بعدما كبرت وناهزت الأربعين من عمري؟!
مع أنني وللأمانة بقيت محتفظاً بهما حتى مراحل متقدمة من الصبا!
لقد علمتني الحياة أشياء كثيرة بهذا الخصوص... جعلتني أنزع فكرة تمني الموت لخصومي...
منها على سبيل المثال... أن هؤلاء المشاكسين المتعبين هم قدر ثابت في الحياة الدنيا... لا يزالون يتربصون بك في كل مكان وكل مرحلة من حياتك... وليس هناك أمل بالخلاص منهم أبداً... فهم جزء مهم من الابتلاء والامتحان الدنيوي الذي لا بد منه للوصول إلى الجنة...
ومنها أن دفع شر هؤلاء له طرق عديدة جداً قبل التفكير بموتهم...
ولأن الحاجة أم الاختراع فإن الحياة تعلمك أن تحاورهم وتلتقي معهم في منتصف الطريق في كثير من الأحيان...
وربما استطعت أن تحولهم إلى أصدقاء بالدفع بالتي هي أحسن حسب الوصفة القرآنية الكريمة... وربما لجأت إلى آخرين يكفونك شرهم... وربما استكثرت من عناصر القوة المادية والعلمية... مما يكفيك أذاهم رهبة واحتراماً
–يذكرني هذا بالردع النووي!-
وفي أسوأ الأحوال قد تجد الصبر والاحتساب عند الله آخر الحلول...
ومما تعلمته أيضاً أن أكفّ أنا عن استعداء الآخرين واستفزازهم ...بأن أتجنب مواقف المنافسة غير المفيدة... أو استعراض العضلات دون مبرر... وبإحسان الخلق مع الناس وكسب قلوبهم وعقولهم والإحسان إليهم والتواضع ولين الجانب... وغيرها الكثير من الصفات التي تقلل الأعداء وتضاعف الأصدقاء...
إن تمني الموت للآخرين هو أسلوب العاجز الضعيف الذي لا يملك حجة يقارع بها أو وسيلة ذكية ليدفع شرور الآخرين بها...
ولعل أخطر ما في الأمر أن تتحول الرغبة في موت الخصم إلى مرحلة التنفيذ العملي... كما تفعل الأنظمة الغاشمة وبعض التنظيمات المتطرفة التي لا تجد حلاً لمواجهة معارضيها بالسبل الحضارية مثل الاحتواء والالتقاء والحوار وقبول الآخر...
الغريب في الأمر أن الكثيرين ممن دعوت عليهم بالموت... ثم ماتوا بالفعل بعد سنين –بفعل القدر وحده!- بكيت عليهم بحرقة وحزنت لفراقهم!!
فأنت تكتشف مع التقدم في العمر أن حكمك على الناس يكون مبالغاً فيه أحياناً كثيرة... وتجد بعد فوات الأوان أنك كنت ظالماً في تمنّيك الموت لهم...
وأنهم ربما كانوا يقصدون لك الخير في قسوتهم عليك... أو لم يجدوا الأسلوب الأمثل لتوصيل نواياهم الحسنة إليك...
ألم يقل الشاعر:
بكيت على عمرو فمات فسرّني
فجاء زمان بكيت فيه على عمرو !